الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{أَن تَمِيدَ بِكُمْ} أي: كراهة أن تميد بكم على ما قاله البصريون، أو لئلا تميد بكم على ما قاله الكوفيون، والميد: الاضطراب يمينًا وشمالًا، ماد الشيء يميد ميدًا تحرّك، ومادت الأغصان تمايلت، وماد الرجل تبختر {وأنهارا} أي: وجعل فيها أنهارًا، لأن الإلقاء، ها هنا بمعنى الجعل والخلق كقوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى} [طه: 39].{وَسُبُلًا} أي: وجعل فيها سبلًا وأظهرها وبينها لأجل تهتدون بها في أسفاركم إلى مقاصدكم.والسبل: الطرق {وعلامات} أي: وجعل فيها علامات، وهي معالم الطرق، والمعنى: أنه سبحانه جعل للطرق علامات يهتدون بها {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} المراد بالنجم: الجنس، أي: يهتدون به في سفرهم ليلًا.وقرأ ابن وثاب {وبالنجم} بضم النون والجيم، ومراده: النجوم فقصره، أو هو جمع نحو كسقف وسقف.وقيل: المراد بالنجم هنا: الجدي والفرقدان قاله الفراء؛ وقيل: الثريا، وقيل: العلامات الجبال، وقيل: هي النجوم، لأن من النجوم ما يهتدى به، ومنها ما يكون علامة لا يهتدى بها.وذهب الجمهور إلى أن المراد في الآية الاهتداء في الأسفار؛ وقيل: هو الاهتداء إلى القبلة، ولا مانع من حمل ما في الآية على ما هو أعمّ من ذلك.قال الأخفش: ثمّ الكلام عند قوله: {وعلامات}، وقوله: {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} كلام منفصل عن الأول؛ ثم لما عدّد الآيات الدالة على الصانع ووحدانيته وكمال قدرته أراد أن يوبخ أهل الشرك والعناد فقال: {أَفَمَن يَخْلُقُ} هذه المصنوعات العظيمة ويفعل هذه الأفاعيل العجيبة {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} شيئًا منها ولا يقدر على إيجاد واحد منها، وهو هذه الأصنام التي تعبدونها وتجعلونها شركاء لله سبحانه.وأطلق عليها لفظ {من} إجراء لها مجرى أولى العلم جريًا على زعمهم بأنها آلهة، أو مشاكلة لقوله: {أَفَمَن يَخْلُقُ} لوقوعها في صحبته، وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ للكفار ما لا يخفى، وما أحقهم بذلك، فإنهم جعلوا بعض المخلوقات شريكًا لخالقه تعالى الله عما يشركون.{أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} مخلوقات الله الدالة على وجوده وتفرّده بالربوبية وبديع صنعته فتستدلون بها على ذلك، فإنها لوضوحها يكفي في الاستدلال بها مجرّد التذكر لها.ثم لما فرغ من تعديد الآيات، التي هي بالنسبة إلى المكلفين نعم، قال: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} وقد مرّ تفسير هذا في سورة إبراهيم.قال العقلاء: إن كل جزء من أجزاء الإنسان لو ظهر فيه أدنى خلل وأيسر نقص لنغص النعم على الإنسان، وتمنى أن ينفق الدنيا لو كانت في ملكه حتى يزول عنه ذلك الخلل، فهو سبحانه يدير بدن هذا الإنسان على الوجه الملائم له، مع أن الإنسان لا علم له بوجود ذلك فكيف يطيق حصر بعض نعم الله عليه أو يقدر على إحصائها، أو يتمكن من شكر أدناها؟.يا ربنا هذه نواصينا بيدك خاضعة لعظيم نعمك معترفة بالعجز عن بادية الشكر لشيء منها، لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، ولا نطيق التعبير بالشكر لك، فتجاوز عنا واغفر لنا وأسبل ذيول سترك على عوارتنا فإنك إن لا تفعل ذلك نهلك بمجرّد التقصير في شكر نعمك، فكيف بما قد فرط منا من التساهل في الائتمار بأوامرك والانتهاء عن مناهيك، وما أحسن ما قال من قال:
فقلت مذيلًا لهذا البيت الذي هو قصر مشيد: وما أحسن ما ختم به هذا الامتنان الذي لا يلتبس على إنسان مشيرًا إلى عظيم غفرانه وسعة رحمته فقال: {إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: كثير المغفرة والرحمة لا يؤاخذكم بالغفلة عن شكر نعمه، والقصور عن إحصائها، والعجز عن القيام بأدناها، ومن رحمته إدامتها عليكم وإدرارها في كل لحظة وعند كل نفس تتنفسونه وحركة تتحركون بها.اللهم إني أشكرك عدد ما شكرك الشاكرون بكلّ لسان في كل زمان، وعدد ما سيشكرك الشاكرون بكل لسان في كل زمان، فقد خصصتني بنعم لم أرها على كثير من خلقك، وإن رأيت منها شيئًا على بعض خلقك لم أرَ عليه بقيتها، فأني أطيق شكرك وكيف أستطيع بادية أدنى شكر أدناها فكيف أستطيع أعلاها؟ فكيف أستطيع شكر نوع من أنواعها؟ثم بين لعباده بأنه عالم بجميع ما يصدر منهم، لا تخفى عليه منه خافية فقال: {والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ} أي: تضمرونه من الأمور {وَمَا تُعْلِنُونَ} أي: تظهرونه منها.وفيه وعيد وتعريض وتوبيخ، وتنبيه على أنّ الإله يجب أن يكون عالمًا بالسرّ والعلانية، لا كالأصنام التي يعبدونها، فإنها جمادات لا شعور لها بشيء من الظواهر فضلًا عن السرائر فكيف يعبدونها؟.وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَمَا ذَرَأَلَكُمْ في الأرض} قال: ما خلق لكم في الأرض مختلفًا من الدواب، والشجر والثمار، نعم من الله متظاهرة، فاشكروها لله.وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا} يعني: حيتان البحر {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} قال: هذا اللؤلؤ.وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله: {وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا} قال: هو السمك وما فيه من الدواب.وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي جعفر، قال: ليس في الحلى زكاة، ثم قرأ: {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}.أقول: وفي هذا الاستدلال نظر، والذي ينبغي التعويل عليه أن الأصل البراءة من الزكاة حتى يرد الدليل بوجوبها في شيء من أنواع المال فتلزم، وقد ورد في الذهب والفضة ما هو معروف، ولم يرد في الجواهر على اختلاف أصنافها ما يدلّ على وجوب الزكاة فيها.وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {مَوَاخِرَ} قال: جواري.وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عكرمة {مَوَاخِرَ} قال: تشقّ الماء بصدرها.وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الضحاك: {مَوَاخِرَ} قال: السفينتان تجريان بريح واحدة مقبلة ومدبرة.وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله: {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} قال: هي التجارة.وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {رَوَاسِىَ} قال: الجبال، {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} قال: حتى لا تميد بكم، كانوا على الأرض تمور بهم لا تستقرّ، فأصبحوا صبحًا وقد جعل الله الجبال، وهي الرواسي أوتادًا في الأرض.وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله: {وَسُبُلًا} قال: السبل هي الطرق بين الجبال.وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والخطيب عن قتادة {وَسُبُلًا} قال: طرقًا {وعلامات} قال: هي النجوم.وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في الآية قال: علامات النهار الجبال.وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر عن الكلبي {وعلامات} قال: الجبال: وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس {وعلامات} يعني: معالم الطرق بالنهار {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} يعني بالليل.وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} قال: الله هو الخالق الرازق، وهذه الأوثان التي تعبد من دون الله تخلق ولا تُخلق شيئًا، ولا تملك لأهلها ضرًّا ولا نفعًا. اهـ.
|